المحبة لها صدى قوي في القلب، ولها رد فعل عجيب في النفس. تكلم عنها بولس بأنها طريق أفضل، وزفها بولس لقرائه كالوصية الجديدة مع أنها قديمة منذ البدء. وتكلم الكتاب المقدس بكامله عن هذه المحبة؛ فروحه وصبغته الخاصة به متشبّعة بالمحبة. فنجد أن الآب مركزها والابن معلنها والروح القدس موصّلها.
المحبة صفة من صفات الله بل هي جوهر شخصيته وكيانه. لذلك نراها دافع الخلق، وسبب الفداء، وحاملة البشارة لأهل الأرض من السماء. وفي نصوص الإنجيل نجدها بين جواهر الله ونفائسة النادرة، وبين وصايا الرب وأحكامه في قوله "أحبوا" (متى 42:5-48)، لوقا 20:10-37) الذي هو أنشودة عذبة وأغنية رنانة وجواباً مغنياً يشبع نهم المؤمنين بالله. لذا نجدها في صيغة الأمر لضرورة القائم بها. لذلك أيها الناس:
أحبوا أعداءكم
اشتهر المسيحيون في القرن الأول بهذه الميزة بل أعطوها مفهوماً جديداً لدى الوثنيين. فهم أحبوا الذين أذاقوهم مرّ العذاب، وأطعموهم خبز الضيق والألم، وسقوهم علقم الاضطهاد وأفسنتينه. وهذا كان طريق التأثير القوي والفعال بين عالم لا يدرك للرحمة معنى، ولا يفسر الظلم إلا كعدة للسير الهيِّن في هذا العالم. أما تقديمهم إنجيل المسيح للعالم رغم الحوائل الكثيرة، لم يكن إلا مظهراً من مظاهر نعمة الله في حياتهم.
كان أحد خدام الرب يقوم بخدمة الأيتام في كنيسته. وذات يوم كان أحد الأولاد الجدد ينعم بهذه الفرصة الذهبية. ولشدة تأثره البليغ من غيرة ومحبة الخادم، ولما كان قد سمع عن يسوع تطلّع مرتجفاً نحو شاب وسيم الطلعة ليّن العريكة وسأله: هل أنت يسوع يا سيدى؟ وما كان هذا إلا خادم الرب. هكذا نرى محبة الله التي تؤثر أقوى من القنابل الذرية، وأقدر من نتائج حملات هجومية في مملكة العالم. فأحبوا أعداءكم لأن الله محبة، "ومن يبغض أخاه فهو قاتل نفس" أخيه في البشرية.
أيتها المحبة، إنك بلسانٌ لجروح السقيم... ودواء لكل عليل... فأنتِ مملوءة باللطف، والسلام، والإحسان، وطول الأناة، ومشحونة قوة وعطفاً وفائضة بالحياة والحنان والرفق.
إن ”زينون“ تلميذ سقراط المقرّب وزميل أفلاطون، لما قام بوبن الأمير ساويرس وأراد أن يطنب في الإشادة بذكره، وصفه قائلاً: إن هذا الرجل قد فعل بأصدقائه من الخير ما لم يستطع أحد اللحاق به سواه. إذن، فقد كان الانتقام فضيلة عند فلاسفة اليونان وحكمائها بخلاف تعليم المسيح القائل "أحبوا أعدائكم".
أحبوا أقرباءكم
من هو قريبي؟ هذا ما سأله الناموسي الذي أتى ليجرب المسيح.
إن قريبي هو الشخص الذي يحتاج إلى المعونة الذي هو أمامي بغض النظر عن فوارق الجنس واللون والمؤهلات. لكن قريبي بالأخص هو أخي في المسيح... أخي في الإيمان وفي محبة الله... وهل توجد أيام صعبة نحتاج أن نشدد فيها على محبة المؤمنين لبعضهم البعض أكثر من أيامنا هذه التي فيها فترت محبة الكثيرين، فازداد الانتقاد لأولاد الله، وتسلط فساد الطبيعة القديمة على حياتهم بالمذمة والحسد وأحياناً بالانتقام والازدراء.
نحن نحتاج إلى أن نكون في روح الصلاة دائماً... لكن، هل تصلي وأنت غير راضٍ عن إخوتك؟ هذا ما نجده شائعاً وكأننا تناسينا العبارة "اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا" و"اذهب أولاً واصطلح مع أخيك ثم تعال وقدِّم قربانك على المذبح"، لكن لتكن محبتنا بدون محاباة... ومن قلب طاهر بشدة، فنحمل بعضنا أثقال بعض. يقول الكتاب: "فرحاً مع الفرحين وبكاء مع الباكين". فإن المحبة هي تكميل الناموس، و”المحبة لا تسقط أبداً“؛ و”من يحب فقد وُلد من الله“، فأحبّ قريبك كنفسك. وبهذا "نعلم أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الإخوة“.
قال أدورام جدسون المرسل إلى بورما: لقد فزت بالغلبة أخيراً، إذ أحب جميع مفديّي المسيح، كما أعتقد أن المسيح يريدني أن أحبهم هكذا. وقال شيخ مختبر: لتكن أسماء الله حلوة في فمك، ومناظرهم جميلة محبوبة في عينيك، وخدمتهم ميسورة في يديك. قال فيكتور هيجو الفرنسي من كلام مأثور: ”إذا كنت نباتاً فكن حساساً، وإن كنت حديداً فكن مغناطيساً، وإن كنت حجراً فكن ماساً، وإن كنت إنساناً محباً، فلا تعبر عن قريبك مرور الكرام في محنته، ولا تنظر بليّته فرحاً في يوم ضيقه بل انزل لمساعدته“.
ذكر الشاعر آرنست كروسييه في قصيدته "البحث" قائلاً: ”لا أحد يقدر أن يخبرني أين يمكن أن أجد نفسي. وبحثت عن الله فزاغ مني. فطلبت أخي وعندئذ وجدت الثلاثة معاً: الله وأخي ونفسي“. فأحب إلهك من كل قلبك وقريبك كنفسك. أنفق في سبيل راحته راحتك، ولو تطلّب الأمر أن تضحّي بمادياتك فلا تبخل بها. واصنع معه الرحمة. ”أعطوا تُعطوا كيلا ملبّدا مهزوزاً فائضاً تُعطون في أحضانكم“. ”وكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضا بهم لأن هذا هو الناموس والأنبياء“.