[
كنت جائعاً فأطعمتموني وعطشاناً فسقيتموني وغريباً فآويتموني ..... .متى25/31-46/
دعتها جدّتها لزيارة دارٍ للمسنّين , فرحّبت فتاة العاشرة بالفكرة وأخذ ت تتخيّل طبيعة هذه الزيارة والمشاعر المتناقضة تلفُ صدرها الصغير .
من هم هؤلاء ....؟ كيف سيكون مظهرهم ....؟ هل هم فرحون ..؟ أم أنّ الحزن قد طوّق أيّامهم كما تطوّق أسوار القفص عصفوراً سجيناً ....! ربما كانوا سعداء .... لكن كيف .. وهم في نأيٍ عن أحبّائهم ...؟
قرّرتِ الصغيرة أن تختبرَ هذه المشاعر على أرض الواقع .
وفي الغد انطلقت مع جدّتها إلى أرضٍ تاقت لاستكشاف معانيها .
في السيّارة أخذت تتأمّل وجوه السيّدات اللّواتي يرافقنها وهنّ يتبادلن أطراف الحديث ، بعضه حول الزيارة والبعض الآخر حول أمورٍ عدّة ، لكنّها قرأت علامات الفرح على وجوههنّ وقد حملن معهنّ أصنافاً من الأطعمة اللذيذة التي كانت رائحتها تلسع أنفها الصغير .
وصلتِ الصغيرة إلى المكان الموعود وترجلت من السيّارة حاملةً بين يديها الفاكهة الطيبة وبضع رُبطٍ من الخبز الساخن .
هي الآن أمام الباب ... وقد تسلّل الخوف إلى نفسها وحينها قالت في قلبها : أين أنا ..؟
كانت رجلها اليمنى تخطو خطوةً إلى الأمام لتعود رجلها اليسرى إلى خلف ... ما الذي ينتظرني في الداخل..؟
لاحظت جدتها هذا التردد في خطواتها فشجّعتها بصوتها الدافئ : هيّا يا حبيبتي فأحبّاؤنا جائعون وهذا البيت يدعى بيت الفرح ولن يحمل إليكِ إلاّ الفرح .
ابتسمتِ الصغيرة ابتسامةً شفّافةً دفعتها للدخول دون ترددٍ أو وجل.
كان استقبال الراهبات الهنديات حاراً جداً والابتسامة اللطيفة تعلو وجوههنّ السمراء .
هي الآن تصعد الدرج المؤدي إلى الطابق الأوّل و الأكياس تميد بين يديها الصغيرتين كما تراقص الرياح العذبة أغصان الأشجار .
صوت جدّتها يدعوها للدخول معها إلى قسم النساء ..... هيّا يا حبيبتي .
مشتِ الصغيرةُ في الممر الطويل الذي تمنت للحظةٍ أن لا ينتهي .
وفي غرفة الطعام فوجئتِ الصغيرة بمشهدٍ قد يبدو للوهلة الأولى طبيعيّاً لكنّها وقفت ساهمةً متأمّلةً في كلّ وجهٍ على حدا وكأنّي بها تستشعرُ قصّة وصول كلّ واحدةٍ إلى هذا المكان الغريب.
الوجوه تضحك ... لكنْ... ربّما القلب يبكي ......
فهذه قد تركها أولادها بعد أن بسطت شبابها وجمالها بين أيديهم ......وتلك لم تتزوّج وتخلّى عنها أشقّاؤها وانتهت إلى هذا المكان البعيد .... والأخرى مات زوجها وعاشت عمرها تحارب المرض والفاقة ... وتلك طُردت من منزلها بسبب زوجة ابنها العاقة .....
وحينها تطايرتِ الدموع من عينيها أسفاً ، وتنبّهت لضرورة التحرك ، فالسيّدات بدأن بتوزيع الطعام بالتساوي على الجميع .
وضعتِ الصغيرة ما بيدها على طاولةٍ قريبةٍ ، وأخذت تتجوّل بين الطاولات والابتسامة البريئة لا تفارق ثغرها .
حينها فقط شعرت لم هي هنا الآن ... ؟ وما المطلوب منها ... ؟ وكيف عليها أن تتصرّف... ؟
وخلال لحظات أصبحت صديقةً للكل .... فقد شعرتِ النسوة بحرارة عاطفتها وصدق مشاعرها وشفافيّة نفسها ..... فأحببنها بقوّةٍ ، وأخذن يتصارعن للتحدّث إليها والتحبّب لها .
في تلك الّلحظة رمقتها جدّتها ، فاستقرأتِ الفرح العارم الذي ملأ قلبها ، فأحسّت بارتياحٍ شديدٍ ، ودموع الفرح تنهمر على وجنتيها الكهلتين ، لأنّ الرسالة الّتي أرادت بثّها في نفس حفيدتها الصغيرة قد وصلت ، وأدركت أ نّ هذه الزيارة ستحفر في صدرها أبهى المشاعر وأذكاها تجاه المحتاجين والمنسيّن والمستضعفين ..... أليسوا هم الأحبّاء الذين أوصانا يسوع أن نهتمّ بهم ونرعاهم .
وحين شعرتِ الصغيرة بالاستكفاء ، غادرتِ المكان الذي غدا الآن محبّباً بعد أن كان غريباً..... قريباً بعد أن كان بعيداً .... وقاطنوه أصدقاء بعد أن كانوا غرباء ......
هي الآن في الثانية عشرة من عمرها ، وقد فضّلت أن تحتفل بعيد ميلادها لهذا العام مع أصدقائها العجزة ، لأنّهم إخوتها وإخوة يسوع الصغار ؛ وقد كانت سعيدة بذلك ، فقد ذهبت إليهم مع معلّمتها الأولى ...جدّتها الحبيبة وأمها وأخويها ، حاملةً إليهم الصندويش والكاتو والكولا ... وقلبها الملتهب حبّاً ....
وهي الآن لا تتوانى عن زيارة هذا المكان المحبّب من وقتٍ لآخر حاملةً إليه فرح المسيح ..
إنّ هذه الصغيرة يا أحبّائي علّمتنا دروساً في اللاهوت ، وهي دروسٌ عمليّةٌ ليست بحاجةٍ إلى السرد وليست بحاجةٍ إلى حججٍ وبراهين ...
إنّ قلوب الصغار هي لعمري أصدق تعبيراً ، وأعمق أثراً ، وأكثر إقناعاً .... فهم أساتذتنا في مواقف شتّى من ظروف